.الفصل السابع والسبعون:
إذا هبت رياح المواعظ أثارت من قلوب المتيقظين غيم الغم على ما سلف، وساقته إلى بلد الطبع المنحرف برعد الوعيد وبرق الخشية، فتترقى دموع الأحزان من بحر قعر القلب إلى أوج الرأس فتسيل في ميازيب الشئون على سطوح الوجنات فإذا أعشب السر اهتز فرحًا بالإنابة.
محت بعدكم تلك العيونُ دموعَها ** فهل من عيون بعدها نستعيرهارحلنا وفي سر الفؤاد ضمائرٌ ** إذا هب نجدي الصبا يستثيرهاأتنسى رياض الغَورِ بعد فراقها ** وقد أخذ الميثاق منك غديرَهايجعده مر الشمال وتارة ** يغازله كر الصبا ومرورهاالأهل إلى شم الخزامى وعرعر ** وشيح بوادي الأثل أرض نسيرهاألا أيها الركب العراقي بلّغوا ** رسالة محزونٍ خواه سطورهاإذا كتبت أنفاسه بعض وجدها ** على صفحة الذكرى محاه زفيرهاترفق رفيقي هل بدت نار أرضهم ** أم الوجد يذكي ناره ويثيرهاأعد ذكرهم فهو الشفاء وربما ** شفى النفس أمر ثم عاد يضيرهاألا أين أزمان الوصال التي خلت ** خلا ما حلا منها وجاء مريرهاسقى الله أيّامًا مضت ولياليًا ** تضوع رياها وفاح عبيرهامن تفكّر في تفريطه أنَّ، ومن تذكر أيام وصله حنّ، من سمع صوت الحمام ظنه لحسن الصوت، كلا بل لذكر ما مر من العيش، إذا نظر الأسير إلى نفسه في ضيق القد ولم يقدر على ضك القيد قطع حزنه حيازيم القلب فنفسه بالأسف في آخر نفس.
تهيم إذا ريح الصبا نسمت لها ** وتبكي إذا الورقاء في الغصن غنتإذا جذب الصبح اللثام تأوهت ** وإن نشر الليل الجناح أرنتكان داود يؤتى بالإناء ناقصًا فلا يشربه حتى يتمه بالدموع.
يا ساقي القوم إن دارت علي فلا ** تمزج فإني بدمعي مازج كأسيكان في خد عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء وكان في وجه ابن عباس كالشراكين الباليين من الدمع.للمهيار:
ألا من لعين من بكاها على الحمى ** تجف ضروع المزن وهي حلوببكت وغدير الحي طام وأصبحت ** عليه العطاش الحائمات تلوبوما كنت أدري أن عينًا ركية ** ولا أن ماء الماقيين شروبكان الحسن يبكي حتى يرحم، وكان الفضيل بن عياض يبكي في النوم حتى ينتبه أهل الدار ببكائه. وكان عطاء يبكي في غرفة له حتى تجري دموعه في الميزاب، فقطرت يومًا إلى الطريق على بعض المارين فصاح يا أهل الدار: أماؤكم طاهر؟ فصاح عطاء: اغسله فإنه دمع من عصا الله.
وممن لبه مع غيره كيف حاله ** ومن سره في جفنه كيف يكتموقالوا لعطاء السلمي: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقد أن أبكي.
وإن شفائي عبرة مهراقة ** فهل عند رسم دارس من معولكان أشعث الحداني وحبيب العجمي يتزاوران فيبكيان طول النهار وكان حزام وسهيل وعبد الواحد كل واحد في بيت يتجاوبون بالبكاء.للخفاجي:
ركب هوى تجاذبوا حديثه ** فاترعوا من الغرام أكؤساواسبلوا من الجفون أدمعًا ** ظننتها ماءً وكانت أنفسالقد سمعت في الرحال أنَّةً ** أظنها نشطة وجد حبساالبكاء موكل بعيون الخائفين كلما همت بفتح طرف لتنظر إلى طرف من طرف الدنيا طرفته دمعة، قال عليه السلام:
«عينان لا تمسّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله». قال الحسن: لو بكي عبد من خشية الله لرحم من حوله ولو كانوا عشرين ألفًا. وقيل لثابت البناني عالج عينيك ولا تبك. فقال: أي خير في عين لا تبكي.لصردر:
إذا لم أفز منكم بوعدٍ ونظرةٍ ** إليكم فما نفعي بسمعي وناظريمتى غنت الورقاءُ كانت مدامتي ** دموعي وزفراتي حنين مزاهريالبكاء لأجل الذنوب مقام المريد، والبكاء على المحبوب مقام العارف.
روحي إليك بكلها قد أجمعت ** لو كان فيك هلاكها ما أقلعتتبكي عليك بكلها عن كلها ** حتى يقال من البكاء تقطعتفانظر إليها نظرة بتعطفٍ ** فلطالما متعتها فتمتعتإخواني: حر الخوف صيف الذوبان وبرودة الرجاء شتاء الغفلة. ومن لطف به كان زمانه كله فصلا:
عين تسر إذا رأتك وأختها ** تبكي لطول تباعدٍ وفراقفاحفظ لواحدة دوام سرورها ** وعِد التي أبكيتها بتلاقسبحان من روح أرواح الخائفين بريح الرجاء الضعيف، إذا لم يتلاف تلف لا بد للمكروب من نسيم بارد:
بالله يا ريح الشمال ** إذا عزمت على الهبوبفتحملي شكوى المحب ** المستهام إلى الحبيبقرب الضنى من مهجتي ** لما بعدت عن الطبيبوقفت عتبة الغلام ليلة على ساحل البحر إلى الصباح يقول: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب. يا قومنا المحب مع بذل روحه يرتاح إلى المنى وإلى لعل لأنه لا يرى ما بذل، يصلح ثمنًا لما طلب:
بقلبي منهم علق ** ودمعي فيهم علقوبي من حبهم حرق ** لها الأحشاء تحترقوما تركوا سوى رمقي ** فليتهم له رمقواكان عبد الواحد يقول لعتبة: أرفق بنفسك فيبكي ويقول: إنما أبكي على تقصيري.
قالوا تصبر فما هذا الجنون بهم ** فقلت يا قوم ليس القلب من قبليواعجبًا، أو يقدر المحب على التصرف في قلبه؟ كلا دين المحب الجبر. لأبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدمأجد الملامة في هواك لذيذة ** حبًا لذكرك فليلمني اللومدخلوا على رابعة فقالت: لقد طالت عليَّ الأيام بالشوق إلى لقاء الله تعالى: ودخلوا عليها مرة أخرى فقالوا: أتشتاقين إليه؟ فقالت: هو حاضر معي. قالوا: يا رابعة هذا ضد الأول، أجابت بلسان الحال: هكذا تحير المحب.
ومن عجب أني أحن إليهم ** وأسأل عنهم من أرى وهم معيوتطلبهم عيني وهم في سوادها ** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعيإذا بدت رابعة في القيمة مختمرة وقعت لهيبة خمارها طيالسة العلماء، كان سفيان يتأدب لرابعة كان هو صاحب مخزن العلم فتردد إلى القهرمانة لأن لها دخولًا أكثر منه رحل الملاك وبقي المدعون، أترى أي طريق سلكوا؟ نحن ملكنا والقوم ملكوا.للشريف الرضي، وللمهيار:
يا صاحبَيْ رَحْلي قِفا ** فسائلا لي الدِّمَناوامطرا دمعكما ** ذاك الكثيب الأيمناما الدار عندي سكن ** إذا عدمت السكناكان فؤادي وهمُ ** فظعنوا فظَعِنامُنىً لعيني أن ترى ** تلك الثلاث من منىويوم سلع لم يكن ** يومي بسلع هيناويوم ذي البان ** تبايعنا فحزتُ الغبناكان الغرام المشترى ** وكان قلبي الثمناوبارق أشيمه ** كالطرف أغضى ورناذكرني الأحباب ** والذكرى تهيج الحزنامن بطن مر والسرى ** تؤام عسفان بناوبالعراق وطرى يا ** بعد ما لاح لنا.الفصل الثامن والسبعون:
المحب يتعلق بكل شيء ويهيم في كل واد، على القلق يمشي وعلى الحرق يمسي:
بقيت على الأطلال من بعدكم ملقى ** أهيم بكمُ غربًا وأطلبكم شرقاوأسأل أنفاس الرياح إذا جرت ** يمانية عنكم وأستنبؤ البرقاكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء ويبدو إلى التلاع. مقاساة الخلق ظلمة، والحبيب لا يتجلى إلا في خلوة.
وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك النفس في السر خالياالمحب مقتول بلا سيف ملقى في منى المنى لا عند الخيف، إذا سمع صوت منشد قد غرد خلع لجام الصبر وتشرد.
ولما غرد الحادي ** وسار القوم في الواديوراح القلب يتبعهم ** بلا ماء ولا زادرأيت قتيل بينهم ** صريعًا ما له فادأول علامات المحبة دموع العين وأوسطها قلق القلب ونهايتها احتراقه.لقيس ذريح:
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة ** وحر على الأجساد ليس له بردوفيض دموع تستهل إذا بدا ** لنا علم من أرضكم لم يكن يبدوقال ذو النون: لقيت امرأة متعبدة فوعظتني فبكيت فقالت: لم تبكي؟ قلت لها: أو العارف لا يبكي؟ قالت: إذا بكى استراح ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه.
لا وحبيك لا أصافح ** بالدمع مدمعامن بكى شجوه استراح ** وإن كان موجعاكبدي في هواك ** أهون من أن تقطعالم تدع سورة الضنى ** فيَّ للسقم موضعاالمحبة نزالة وقوتها المهج. كانت أضلاع عمر بن عبد العزيز تعد، وكان جسد سرى كالشن. وقف أبو يزيد في المحراب فكبر فتقعقعت عظامه.
وإني لتعروني لذكراك روعة ** لها بين جلدي والعظام دبيبفما هو إلا أن أراها فجأة ** فأبهت حتى لا أكاد أجيبإذا رأيت محبًا ولم تدر لمن؟ فضع يدك على نبضه. وسم كل من تظنه المحبوب، فإن النبض لا ينزعج إلا عند ذكره
{إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم}.للمهيار:
ألا فتى يسأل قلبي ماله ** ينزو إذا برق الحمى بدالهفهب يرجو خبرًا من الحمى ** يسنده عنه فما روى لهأراد نجدًا معه فانتقضت ** إرادة هاجت له بلبالهوانتسم الريح الصبا ومن له ** بنفحة من الصبا طوبى لهالمحب في قلق لا سكون، والعجب أنه يتكلف الثبات.
الوجد يحركه والليل يقلقه ** والصبر يسكته والحب ينطقهويستر الحال عمن ليس يعذره ** وكيف يستره والدمع يسبقهالمحب مبالغ في كتمان وجده، غير أن الدمع نمام.
آفة السر من جفو ** ن دوام دوامعكيف يخفى من الدمو ** ع الهوامى الهوامعكان أكثر القوم، إذا جائه البكاء دافعه، اتقاء اللاحي له، فيغلبه فلا حيلة له.للمتنبي:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره ** وغيَّض الدمع فأنهلت بوادرهوكاتم الحب يوم البين مفتضح ** وصاحب الوجد لا تخفى سرائرهإذا أقلقه الحب ضج، وإذا أرقه الشوق عج، وكلما حبس دمعه ثج، وإذا استوحش من الخلق هج، فالهموم تنوبه من كل فج، حشيت قلوب القوم بالغموم، حشو الورد في قوارير الزور، وكلما التهبت نار الحذر جرت عيون الدمع في جداول العيون فرشت على الخدود ماء، ما ماء الورد عنده بطيب.لأبي المعتز:
أسر القلب فأمسى لديه ** فهو يشكوه ويشكو إليهعذب الأحباب بالهجر حينًا ** فهم يبكون بين يديهواعجبًا لضعف بدن العارف كم يحمل؟ وآسفا لقلب المحب كم يصبر.
نعم تحمل الأشواق والعيس ظلع ** ويمشي الهوى والناقلات قعودما أقوى جلد جلد القلب على نار الحب، كأنه قد ألبس ريش السمندل على أنه لا بد من لذع يبين أثره في صعود الصعداء دلالة تدل على الحريق، اشتط اللهيب فشاطت القلوب لولا أن القوم على شواطي بحر الدموع نزول.للشريف الرضي:
خذي حديثك في نفس من النفس ** وَجْدُ المَشوق المُعَنَّى غير ملتبسالماء في ناظري والنار في كبدي ** إن شئتِ فاغترفي أو شئت فاقتبسيأشد ما على المحب من مقاساة الحب سماع اللوم، واعجبًا من خلي يعذل ذا شجا ويحك خل شأنه وشانه.
فيا حبهم زدني جوى كل ليلة ** ويا سلوة الأيام موعدك الحشرلما أسلم سعد بن أبي وقاص قالت له أمه: والله لا آكل ولا أشرب ولا يظللني سقف بيت حتى تكفر بمحمد. فقال: اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت واحدة بعد واحدة لم أكفر بمحمد. ويحها ما خبرت خبر المحبة؟ متى وقع السلو في حب صادق؟ للمتنبي:
عذل العواذل حول قلبي التائه ** وهوى الأحبة منه في سودائهالقلب أعلم يا عذول بدائه ** وأحق منك بجفنه وبمائهفومن أحب لأعصينك في الهوى ** قسمًا به وبحسنه وبهائهأأحبه وأحب فيه ملامة ** إن الملامة فيه من أعدائهلا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى تكون حشاك في أحشائهواعجبًا لعاذل في حب ما ذاقه، وآمر بهجر حبيب ما شاقه.
وماذا على مفرد بالعراق ** تذكر بالرمل عهدًا فحناوإني لكل شج عاذر ** إذا ناح من طرب أو تغنىكانت أم الربيع بن خيثم إذا رأت قلقه بالليل. قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلًا فيقول يا أماه قتلت نفسي، قيل لعابد كان ينتحب: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بارتفاع صوتك. فقال: إن حزن القيامة أورثني دموعًا غزارا، فأنا أستريح إلى ذرفها أحيانا.
مهلًا عذول صليت نار جوانحي ** وغرقت في تيار دمعي المسيلهذي حشاي لديك فانظر هل ترى ** قلبًا فإن صادفت قلبًا فاعذلغاية العاذلين إيصال اللوم إلى الأسماع، فأما القلوب فلا سبيل إليها.
سيان إن لاموا وإن عذروا ** ما لي عن الأحباب مصطبرلا غرو إن أغرى بحبهم ** إذ ليس لي في غيرهم وطرلا بد لي منهم وإن تركوا ** قلبي بنار الهجر يستعروعلي أن أرضى بما صنعوا ** وأطيعهم في كل ما أمروالو رأيت المحب يهرب من العذل إلى فلوات الخلوات، فإذا ناوله الوجد كأس الدموع اقترح عليه غناء الحمائم.
ذكر الأحباب والوطنا ** والصبا والألف والسكنافبكى شجوًا وحق له ** مدنف بالشوق حلف ضنىأبعدت مرمى به رجمت ** من خراسان به اليمنامن لمشتاق تميله ** ذات سجع ميلت فننالم تعرض في الحنين بمن ** مسعد إلا وقلت أنالك يا ورقاء أسوة من ** لم تذيقي طرفه الوسنابك أنسي مثل أنسك بي ** فتعالى نبد ما كمنانتشاكى ما نجن إذا ** بحت شكوى صحت واحزناأنا لا أنت البعيد هوى ** أنا لا أنت الغريب هناأنا فرد يا حمام وها ** أنت والألف القرين ثنااسرحا رأد النهار معًا ** واسكنا جنح الدجى غصناوابكيا يا جارتي لما ** لعبت أيدي الفراق بناأين قلبي ما صنعت به ** ما أرى صدري له وطناكان يوم النفر وهو معي ** فأبى أن يصحب البدناأبه حادي الرفاق حدا ** أم له داعي الفراق عنى